فصل: فَصْـــل في شرح طريق الشيخ عبد القادر وشيخه الدباس

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


 فَصْـــل

فأمر الشيخ عبد القادر وشيخه حماد الدباس وغيرهما من المشائخ أهل الاستقامة ـ رضي اللّه عنهم ـ‏:‏ بأنه لا يريد السالك مرادًا قط، وأنه لا يريد مع إرادة اللّه ـ عز وجل ـ سواها، بل يجرى فعله فيه، فيكون هو مراد الحق، إنما قصدوا به فيما لم يعلم العبد أمر اللّه ورسوله فيه، فأما ما علم أن اللّه أمر به فعليه أن يريده ويعمل به، وقد صرحوا بذلك في غير موضع‏.‏ وإن كان غيرهم من الغالطين يري القيام بالإرادة الخلقية هو الكمال، وهو الفناء في توحيد الربوبية، وأن السلوك إذا انتهى إلى هذا الحد، فصاحبه إذا قام بالأمر فلأجل غيره، أو أنه لا يحتاج أن يقوم بالأمر، فتلك أقوال وطرائق فاسدة قد تكلم عليها في غير هذا الموضع‏.‏

فأما المستقيمون من السالكين كجمهور مشائخ السلف، مثل الفضيل بن عياض، وإبراهيم بن أدهم، وأبي سليمان الداراني ومعروف / الكرخي، والسري السقطي، والجنيد ابن محمد، وغيرهم من المتقدمين ومثل الشيخ عبد القادر، والشيخ حماد، والشيخ أبي البيان، وغيرهم من المتأخرين، فهم لا يسوغون للمسالك ولو طار في الهواء أو مشى على الماء أن يخرج عن الأمر والنهي الشرعيين بل عليه أن يفعل المأمور، ويدع المحظور إلى أن يموت، وهذا هو الحق الذي دل عليه الكتاب والسنة وإجماع السلف‏.‏

وهذا كثير في كلامهم‏:‏ كقول الشيخ عبد القادر في كتاب ‏[‏فتوح الغيب‏]‏‏:‏ ‏[‏اخرج من نفسك، وتنح عنها، وانعزل عن ملكك، وسلم الكل إلى اللّه تبارك وتعالى، وكن بوابه علي باب قلبك، وامتثل أمره تبارك وتعالى في إدخال من يأمرك بإدخاله، وانته نهيه في صد من يأمرك بصده، فلا تدخل الهوى قلبك بعد أن خرج منه، وإخراج الهوى من القلب بمخالفته وترك متابعته في الأحوال كلها، وإدخاله في القلب بمتابعته وموافقته، فلا ترد إرادة غير إرادته تبارك وتعالى، وغير ذلك منك غير، وهو واد الحمقى، وفيه حتفك وهلاكك وسقوطك من عينه تبارك وتعالى، وحجابك عنه‏.‏

احفظ أبدا أمره، وانته أبدا نهيه، وسلم إليه أبدا مقدوره، ولا تشركه بشيء من خلقه، فإرادتك وهواك وشهواتك خلقه، فلا ترد ولا تهوى ولا تشته لئلا يكون شركا‏.‏ قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 110‏]‏ ليس الشرك عبادة الأصنام فحسب؛ بل هو أيضًا متابعتك لهواك، وأن تختار مع ربك شيئًا سواه من الدنيا وما فيها، والآخرة وما فيها، فما سواه تبارك وتعالى غيره، فإذا ركنت إلى غيره فقد أشركت به غيره، فاحذر ولا تركن، وخف ولا تأمن، وفتش ولا تغفل فتطمئن، ولا تضف إلى نفسك حالًا ولا مقامًا، ولاتدع شيئًا من ذلك‏]‏‏.‏

وقال الشيخ عبد القادر أيضًا‏:‏ ‏[‏إنما هو اللّه ونفسك، وأنت المخاطب، والنفس ضد اللّه وعدوته، والأشياء كلها تابعة للّه، فإذا وافقت الحق في مخالفة النفس وعداوتها كنت خصمًا له على نفسك‏]‏ ـ إلى أن قال ـ‏:‏

‏[‏فالعبادة في مخالفتك نفسك وهواك، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَا تَتَّبِعْ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 26‏]‏ ‏]‏ إلى أن قال‏:‏

‏[‏والحكاية المشهورة عن أبي يزيد البسطامي ـ رحمه اللّه تعالى ـ لما رأي رب العزة في المنام فقال له‏:‏ كيف الطريق إليك‏؟‏ فقال‏:‏ ‏[‏اترك نفسك وتعال‏]‏ قال أبو يزيد‏:‏ فانسلخت من نفسي كما تنسلخ الحية من جلدها‏.‏

فإذا ثبت أن الخير كله في معاداتها في الجملة في الأحوال كلها، فإن / كنت في حال التقوى فخالف النفس بأن تخرج من إجرام الخلق، وشبههم ومنتهم، والاتكال عليهم والثقة بهم، والخوف منهم؛ والرجاء لهم، والطمع فيما عندهم من حطام الدنيا، فلا ترج عطاءهم على طريق الهدية، أو الزكاة، أو الصدقة، أو الكفارة أو النذر، فاقطع همك منهم من سائر الوجوه والأسباب، فاخرج من الخلق جدًا، واجعلهم كالباب يرد ويفتتح، وكالشجرة يوجد فيها ثمرة تارة وتحيل أخرى، كل ذلك بفعل فاعل، وتدبير مدبر، وهو اللّه ـ تبارك وتعالى‏.‏

فإذا صح لك هذا كنت موحدًا له ـ تبارك وتعالى ـ ولا تنس مع ذلك كسبهم لتتخلص من مذهب الجبرية، واعتقد أن الأفعال لا تتم لهم دون اللّه ـ تبارك وتعالى ـ لكيلا تعبدهم، وتنسى اللّه ـ تعالى ـ ولا تقبل فعلهم دون اللّه فتكفر، وتكون قدريًا‏.‏ ولكن قل‏:‏ هي للّه خلقًا وللعباد كسبا‏.‏ كما جاءت به الآثار لبيان موضع الجزاء من الثواب والعقاب، وامتثل أمر اللّه فيهم وخلص قسمك منهم بأمره ولا تجاوزه، فحكمه قائم يحكم عليك وعليهم، فلا تكن أنت الحاكم، وكونك معهم قدر، والقدر ظلمة، فادخل في الظلمة بالمصباح وهو الحكم ـ كتاب اللّه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ـ لا تخرج عنهما‏.‏

فإن خطر خاطر أو وجدت إلهاما فاعرضهما على الكتاب والسنة، فإن وجدت فيهما تحريم ذلك، مثل أن تلهم بالزنا أو الربا أو مخالطة / أهل الفسوق والفجور وغير ذلك من المعاصي فادفعه عنك، واهجره ولاتقبله، ولاتعمل به واقطع بأنه من الشيطان اللعين، وإن وجدت فيهما إباحته كالشهوات المباحه من الأكل والشرب واللبس والنكاح فاهجره أيضًا ولا تقبله، واعلم أنه من إلهام النفس وشهواتها، وقد أمرت بمخالفتها وعداوتها‏]‏

قلت‏:‏ ومراده بهجر المباح، إذا لم يكن مأمورًا به، كما قد بين مراده في غير هذا الموضع، فإن المباح المأمور به إذا فعله بحكم الأمر كان ذلك من أعظم نعمة اللّه عليه، وكان واجبًا عليه، وقد قدمت أنه يدعو إلى طريقة السابقين المقربين؛ لا يقف عند طريقة الأبرار أصحاب اليمين‏]‏‏.‏

قال‏:‏ ‏[‏وإن لم تجد في الكتاب والسنة تحريمه ولا إباحته بل هو أمر لا تعقله، مثل أن يقال لك‏:‏ ائت موضع كذا وكذا، الق فلانًا الصالح، ولا حاجة لك هناك ولا في الصالح، لاستغنائك عنه بما أولاك اللّه تعالى من نعمه من العلم والمعرفة، فتوقف في ذلك ولا تبادر إليه، فتقول‏:‏ هل هذا إلهام إلا من الحق فأعمل به‏؟‏ بل أنتظر الخير في ذلك، وفعل الحق بأن يتكرر ذلك الإلهام وتؤمر بالسعي، أو علامة تظهر لأهل العلم باللّه تبارك وتعالى يفعلها العقلاء من أولياء اللّه، والمؤيدون من الأبدال‏.‏

وإنما لم تبادر إلى ذلك لأنك لا تعلم عاقبته وما يؤول الأمر إليه، وربما / كان فيه فتنة وهلاك ومكر من اللّه وامتحان، فاصبر حتى يكون عز وجل هو الفاعل فيك، فإذا تجرد الفعل وحملت إلى هناك واستقبلتك فتنة كنت محمولًا محفوظًا فيها؛ لأن اللّه تعالى لا يعاقبك على فعله، وإنما تتطرق العقوبات نحوك لكونك في الشىء‏]‏‏.‏

قلت‏:‏ فقد أمر ـ رضي اللّه عنه ـ بأن ما كان محظورًا في الشرع يجب تركه ولابد، وما كان معلومًا أنه مباح بعينه لكونه يفعل بحكم الهوى لا بأمر الشارع فيترك أيضًا، وأما ما لم يعلم هل هو بعينه مباح لا مضرة فيه أو فيه مضرة مثل السفر إلى مكان معين أو شخص معين، والذهاب إلى مكان معين أو شخص معين، فإن جنس هذا العمل ليس محرمًا ولا كل أفراده مباحة؛ بل يحرم على الإنسان أن يذهب إلى حيث يحصل له ضرر في دينه فأمره بالكف عن الذهاب حتى يظهر أو يتبين له في الباطن أن هذا مصلحة؛ لأنه إذا لم يتبين له أن الذهاب واجب أو مستحب لم ينبغ له فعله، وإذا خاف الضرر ينبغي له تركه، فإذا أكره على الذهاب لم يكن عليه حرج فلا يؤاخذ بالفعل، لخلاف ما إذا فعله باختياره أو شهوته؛ وإذ تبين له أنه مصلحة راجحة كان حسنًا‏.‏

وقد جاءت شواهد السنة بأن من ابتلى بغير تعرض منه أعين ومن تعرض للبلاء خيف عليه‏.‏ مثل قوله صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن سمرة‏:‏ ‏(‏لا تسأل الإمارة، فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها، وإن أعطيتها / عن غير مسألة أعنت عليها‏)‏، ومنه قوله‏:‏ ‏(‏لا تتمنوا لقاء العدو، واسألوا اللّه العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا‏)‏‏.‏ وفي السنن‏:‏ ‏(‏من سأل القضاء واستعان عليه بالشفعاء وكل إليه، ومن لم يسأل القضاء ولم يستعن عليه أنزل اللّه عليه ملكًا يسدده ـ وفي رواية ـ وإن أكره عليه‏)‏، وفي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال في الطاعون‏:‏ ‏(‏إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارًا منه‏)‏، وعنه أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن النذر‏.‏ ومنه قوله‏:‏ ‏(‏ذروني ماتركتم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم‏)‏‏.‏

 فَصْـــل

قال الشيخ عبد القادر‏:‏ وإن كنت في حال الحقيقة، وهي حال الولاية‏:‏ فخالف هواك واتبع الأمر في الجملة، واتباع الأمر على قسمين‏:‏

أحدهما‏:‏ أن تأخذ من الدنيا القوت الذي هو حق النفس، وتترك الحظ وتؤدي الفرض وتشتغل بترك الذنوب ما ظهر منها وما بطن‏.‏

/والقسم الثاني‏:‏ ما كان بأمر باطن، وهو أمر الحق تبارك وتعالى يأمر عبده وينهاه، وإنما يتحقق هذا الأمر في المباح الذي ليس حكمًا في الشرع، على معنى أنه ليس من قبيل النهي ولا من قبيل الأمر الواجب، بل هو مهمل ترك العبد يتصرف فيه باختياره، فسمى مباحًا فلا يحدث العبد فيه شيئًا من عنده بل ينتظر الأمر فيه فإذا أمر امتثل فيصير جميع حركاته وسكناته باللّه تعالى، مافي الشرع حكمه فبالشرع، وما ليس له حكم في الشرع فبالأمر الباطن، فحينئذ يصير محققًا من أهل الحقيقة وما ليس فيه أمر باطن فهو مجرد الفعل حالة التسليم‏.‏

وإن كنت في حالة حق الحق وهي حالة المحق، والفناء حالة الأبدال المنكسري القلوب؛ لأجل الحق، والموحدين العارفين أرباب العلوم والفعل، السادة الأمراء، السخي الخفراء للحق، خلفاء الرحمن وأجلائه وأعيانه وأحبابه ـ عليهم السلام ـ فاتباع الأمر فيها بمخالفتك إياك بالتبري من الحول والقوة، وألا تكون لك إرادة وهمة في شيء البتة، دنيا وأخرى عبد المَلِك لاعبد المَلَك، وعبد الأمر لا عبد الهوى كالطفل مع الظئر، والميت الغسيل مع الغاسل، والمريض المغلوب على حسه مع الطبيب فيما سوى الأمر والنهي‏.‏

وقال أيضًا‏:‏ اتبع الشرع في جميع ما ينزل بك، إن كنت في / حال التقوى التي هي القدم الأولى، واتبع الأمر في حالة الولاية ووجود الهوي ولا تتجاوزه، وهي القدم الثانية، وارض بالفعل ووافق وافن في حالة البدلية والعينية والصديقية، وهي المنتهى، تنح عن الطريق القذر، خل عن سبيله، رد نفسك وهواك، كف لسانك عن الشكوى، فإذا فعلت ذلك، إن كان خيرًا زادك المولى طيبة ولذة وسرورًا، وإن كان شرا ً حفظك في طاعته فيه، وأزال عنك الملامة وأقعدك فيه حتى يتجاوز ويريحك عند انقضاء أجله، كما ينقضي الليل فيسفر عن النهار والبرد في الشتاء فيسفر عن الصيف، ذلك النموذج عندك فاعتبر به‏.‏ ثم ذنوب وآثام وإجرام وتلويث بأنواع المعاصي والخطايا، ولا يصلح لمجالسة الكريم إلا طاهر عن أنجاس الذنوب والزلات، ولايقبل على شدته إلا طيب من دون الدعوى والهواشات، كما لا يصلح لمجالسة الملوك إلا الطاهر من الأنجاس وأنواع النتن والأوساخ، فالبلايا مكفرات‏.‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏حمى يوم كفارة سنة‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ فقد بين الشيخ عبد القادر ـ رضي اللّه عنه ـ أن لزوم الأمر والنهي لابد منه في كل مقام، وذكر الأحوال الثلاث التي جعلها‏:‏ حال صاحب التقوى، وحال الحقيقة، وحال حق الحق، وقد فسر مقصوده بأنه لابد للعبد في كل حال من أن يريد فعل ما أمر به / في الشرع وترك ما نهى عنه في الشرع، وأنه إذا أمر العبد بترك إرادته فهو فيما لم يؤمر به ولم ينه عنه، وهذا حق‏.‏ فإنه لم يؤمر به فتكون له إرادة في وجوده ولا نهي عنه فتكون له إرادة في عدمه فيخلو في مثل هذا عن إرادة النقيضين‏.‏

وقد بين أن صاحب الحقيقة عليه أن يلزم الأمر دائمًا الأمر الشرعي الظاهر إن عرفه، أو الأمر الباطن، وبين أن الأمر الباطن إنما يكون فيما ليس بواجب في الشرع ولا محرم، وإن مثل هذا ينتظر فيه الأمر الخاص حتى يفعله بحكم الأمر‏.‏

فإن قلت‏:‏ فما الفرق بين هذا وبين صاحب التقوى الذي قبله‏؟‏ وصاحب الحق الذي بعده‏؟‏‏.‏

قيل‏:‏ أما الذي بعده الذين سماهم‏:‏ الأبدال، فهم الذين لا يفعلون إلا بأمر الحق ولا يفعلون إلا به فلا يشهدون لأنفسهم فعلًا فيما فعلوه من الطاعة؛ بل يشهدون أنه هو الفاعل بهم ما قام بهم من طاعة أمره، ولهذا قال‏:‏ فاتباع الأمر فيها مخالفتك إياك بالتبري من الحول والقوة‏.‏

فهؤلاء يشهدون توحيد الربوبية مع توحيد الإلهية، فيشهدون / أن اللّه هو الذي خلق ما قام بهم من أفعال البر والخير، فلا يرون لأنفسهم حمدًا ولا منة على أحد، ويرون أن اللّه خالق أفعال العباد فلا يرون أحدًا مسيئًا إليهم، ولا يرون لهم حقًا على أحد إذ قد شهدوا أن اللّه خالق كل شيء من أفعال العباد وغيرها، وهم يعلمون أن العبادة لا يستحقون من أنفسهم ولا بأنفسهم على اللّه شيئًا، بل هو الذي كتب على نفسه الرحمة ويشهدون أنه يستحق أن يعبد، ولا يشرك به شيء وأنه يستحق أن يتقي حق تقاته، وحق تقاته أن يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر، فيرون إنما قام بهم من العمل الصالح فهو جوده وفضله وكرمه له الحمد في ذلك‏.‏

ويشهدون‏:‏ أنه لا حول ولا قوة إلا باللّه‏.‏ وأما ما قام بالعباد من أذاهم، فهو خلقه وهو من عدله، وما تركه الناس من حقوقهم التي يستحقونها على الناس فهو الذي لم يخلقه، وله الحمد علي كل حال على ما فعل ومالم يفعل‏.‏ ولهذا كانوا منكسرة قلوبهم؛ لشهودهم وجوده الكامل وعدمهم المحض، ولا أعظم انكسارا ممن لم ير لنفسه إلا العدم لا يرى له شيئًا، ولا يرى به شيئًا‏.‏

وصاحب الحقيقة الذي هو دون هذا قد شاركه في إخلاص الدين للّه، وأنه لا يفعل إلاما أمر به، فلايفعل إلا للّه، لكن قصر عنه في شهود توحيد الربوبية ورؤيته، وأنه لا حول ولا قوة إلا باللّه / وأنه ليس له في الحقيقة شيء؛ بل الرب هو الخالق الفاعل لكل ما قام به، وإن كمال هذا الشهود لا يبقى شيئًا من العجب ولا الكبر ونحو ذلك‏.‏ فكلاهما قائم بالأمر مطيع للّه، لكن هذا يشهد أن اللّه هو الذي جعله مسلمًا مصليًا، وأنه في الحقيقة لم يحدث شيئًا‏.‏ وذاك وإن كان يؤمن بهذا ويصدق به إذ كان مقرًا بأن اللّه خالق أفعال العباد؛ لكن قد لا يشهده شهودًا يجعله فيه بمنزلة المعدوم‏.‏

وأيضًا، بينهما فرق من جهة ثانية‏:‏ وهي أن الأول تكون له إرادة وهمة في أمور فيتركها، فهو يميز في مراداته بين ما يؤمر به وما ينهى عنه، ومالا يؤمر به ولا ينهى عنه؛ ولهذا لم يبق له مراد أصلا إلا ما أراده الرب، إما أمرًا به فيمتثله هو باللّه، وإما فعلا فيه فيفعله اللّه به، ولهذا شبهه بالطفل مع الظئر، في غير الأمر والنهي‏.‏

وأما الأول‏:‏ الذي هو في مقام التقوى العامة، فإن له شهوات للمحرمات، وله التفات إلى الخلق، وله رؤية نفسه، فيحتاج إلى المجاهدة بالتقوى، بأن يكف عن المحرمات، وعن تناول الشهوات بغير الأمر، فهذا يحتاج أن يميز بين ما يفعله ومالا يفعله، وهو التقوى، وصاحب الحقيقة لم يبق له ما يفعله إلا ما يؤمر به فقط، فلا يفعل إلا ما أمر به في الشرع، وما كان مباحًا لم يفعل إلا ما أمر به‏.‏

/وأما الثالث‏:‏ فقد تم شهوده في أنه لا يفعل إلا للّه وباللّه، فلا يفعل إلا ما أمر اللّه به للّه، ويشهد أن اللّه هو الذي فعل ذلك في الحقيقة، ولا تكون له همة إرادة أن يفعل لنفسه ولا لغير اللّه، ولا يفعل بنفسه ولا بغير اللّه ـ تعالى‏.‏

والثلاثة مشتركون في الطريق، في أن كلًا منهم لا يفعل إلا الطاعة، لكن يتفاوتون بكمال المعرفة والشهادة، وبصفاء النية والإرادة‏.‏ واللّه أعلم‏.‏

فإن قيل‏:‏ كلام الشيخ كله يدور على أنه يتبع الأمر مهما أمكن معرفته باطنًا وظاهرًا، وما ليس فيه أمرًا باطنًا ولا ظاهرًا يكون فيه مسلمـًا لفعل الرب، بحيث لا يكون له اختيار لا في هذا ولا في هذا بل إن عرف الأمر كان معه، وإن لم يعرفه كان مع القدر، فهو مع أمر الرب إن عرف وإلا فمع خلقه، فإنه سبحانه له الخلق والأمر، وهذا يقتضي أن من الحوادث ماليس فيه أمر ولا نهي، فلا يكون للّه فيه حكم لا باستحباب ولا كراهة، وقد صرح بذلك هو والشيخ حماد الدباس، وإن السالك يصل إلى أمور لا يكون فيها حكم شرعي بأمر ولا نهي، بل يقف العبد مع القدر؛ وهذا الموضع هو الذي يكون السالك فيه عندهم مع الحقيقة القدرية المحضة، إذ ليس هنا حقيقة شرعية‏.‏

/وهذا مما ينازعهم فيه أهل العلم بالشريعة، ويقولون‏:‏ الفعل إما أن يكون بالنسبة إلى الشرع وجوده راجحًا على عدمه، وهو الواجب والمستحب‏.‏ وإما أن يكون عدمه راجحًا على وجوده، وهو المحرم والمكروه، وإما أن يستوى الأمران وهو المباح، وهذا التقسيم بحسب الأمر المطلق‏.‏

ثم الفعل المعين الذي يقال‏:‏ هو مباح، إما أن تكون مصلحته راجحة للعبد لاستعانته به على طاعته ولحسن نيته‏.‏ فهذا يصير أيضًا محبوبًا راجح الوجود بهذا الاعتبار، وإما أن يكون مفوتًا للعبد ما هو أفضل له كالمباح الذي يشغله عن مستحب، فهذا عدمه خير له‏.‏

والسالك المتقرب إلى اللّه بالنوافل بعد الفرائض لا يكون المباح المعين في حقه مستوى الطرفين، فإنه إذا لم يستعن به على طاعته كان تركه، وفعل الطاعة مكانه خيرًا له، وإنما قدر وجوده وعدمه سواء إذا كان مع عدمه يشتغل بمباح مثله‏.‏ فيقال‏:‏ لا فرق بين هذا وهذا، فهذا يصلح للأبرار أهل اليمين الذين يتقربون إلى اللّه بالفرائض، كأداء الواجبات، وترك المحرمات، ويشتغلون مع ذلك بمباحات‏.‏ فهؤلاء قد يكون المباح المعين يستوى وجوده وعدمه في حقهم، إذا كانوا عند عدمه يشتغلون بمباح آخر، ولا سبيل إلى أن تترك النفس فعلًا إن / لم تشتغل بفعل آخر يضاد الأول؛ إذ لا تكون معطلة عن جميع الحركات والسكنات‏.‏

ومن هذا أنكر الكعبي‏:‏ المباح في الشريعة؛ لأن كل مباح فهو يشتغل به عن محرم، وترك المحرم واجب، ولا يمكنه تركه إلا أن يشتغل بضده، وهذا المباح ضده، والأمر بالشيء نهي عن ضده والنهي عنه أمر بضده إن لم يكن له إلا ضد واحد، وإلا فهو أمر بأحد أضداده، فأي ضد تلبس به كان واجبًا من باب الواجب المخير‏.‏

وسؤال الكعبي هذا أشكل على كثير من النظار‏.‏ فمنهم من اعترف بالعجز عن جوابه‏:‏ كأبي الحسن الآمدي، وقواه طائفة، بناء على أن النهي عن الشيء أمر بضده كأبي المعالي‏.‏ ومنهم من قال‏:‏ هذا فيما إذا كانت أضداده محصورة، فأما ما ليست أضداده محصورة فلا يكون النهي عنه أمرًا بأحدهما، كما يفرق بين الواجب المطلق والواجب المخير، فيقال في المخير‏:‏ هو أمر بأحد الثلاثة، ويقال في المطلق‏:‏ هو أمر بالقدر المشترك، وجدنا أبو البركات يميل إلى هذا‏.‏

وقد ألزموا الكعبي إذا ترك الحرام بحرام آخر، وهو قد يقول‏:‏ عليه ترك المحرمات كلها إلى ما ليس بمحرم، بل إما مباح وإما مستحب، وإما واجب‏.‏

/وتحقيق الأمر أن قولنا‏:‏ الأمر بالشىء نهى عن ضده وأضداده، والنهي عنه أمر بضده أو بأحد أضداده، من جنس قولنا‏:‏ الأمر بالشىء أمر بلوازمه، وما لا يتم الواجب إلا به، فهو واجب، والنهي عن الشىء نهي عما لا يتم اجتنابه إلا به‏.‏ فإن وجود المأمور يستلزم وجود لوازمه وانتفاء أضداده، بل وجود كل شيء هو كذلك يستلزم وجوده وانتفاء أضداده، وعدم النهي عنه؛ بل وعدم كل شيء يستلزم عدم ملزوماته، وإذا كان لا يعدم إلابضد يخلقه كالأكوان فلا بد عند عدمه من وجود بعض أضداده، فهذا حق في نفسه؛ لكن هذه اللوازم جاءت من ضرورة الوجود وإن لم يكن مقصوده الأمر‏.‏ والفرق ثابت بين مايؤمر به قصدًا، وما يلزمه في الوجود‏.‏

فالأول‏:‏ هو الذي يذم ويعاقب على تركه بخلاف الثاني، فإن من أمر بالحج أو الجمعة وكان مكانه بعيدًا فعليه أن يسعى من المكان البعيد، والقريب يسعى من المكان القريب، فقطع تلك المسافات من لوازم المأمور به، ومع هذا فإذا ترك هذان الجمعة والحج لم تكن عقوبة البعيد أعظم من عقوبة القريب، بل ذلك بالعكس أولى مع أن ثواب البعيد أعظم، فلو كانت اللوازم مقصودة للأمر لكان يعاقب بتركها، فكان يكون عقوبة البعيد أعظم وهذا باطل قطعًا‏.‏

وهكذا إذا فعل المأمور به فإنه لابد من ترك أضداده، لكن / ترك الأضداد هو من لوازم فعل المأمور به ليس مقصودًا للأمر، بحيث أنه إذا ترك المأمور به عوقب على تركه لا على فعل الأضداد التي اشتغل بها، وكذلك المنهي عنه مقصود الناهي عدمه؛ ليس مقصوده فعل شيء من أضداده، وإذا تركه متلبسًا بضد له كان ذلك من ضرورة الترك‏.‏

وعلى هذا إذا ترك حرامًا بحرام آخر فإنه يعاقب على الثاني، ولا يقال‏:‏ فعل واجبًا وهو ترك الأول؛ لأن المقصود عدم الأول، فالمباح الذي اشتغل به عن محرم لم يؤمر به ولا بامتثاله أمرًا مقصودًا؛ لكن نهى عن الحرام ومن ضرورة ترك المنهي عنه الاشتغال بضد من أضداده، فذاك يقع لازمًا لترك المنهي عنه، فليس هو الواجب المحدود بقولنا‏:‏ الواجب ما يذم تاركه، ويعاقب تاركه، أو يكون تركه سببًا للذم والعقاب‏.‏

فقولنا‏:‏ ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، أو ‏[‏يجب التوصل إلى الواجب بما ليس بواجب‏]‏‏.‏ يتضمن إيجاب اللوازم، والفرق ثابت بين الواجب الأول، والثاني‏.‏ فإن الأول يذم تاركه ويعاقب، والثاني واجب وقوعًا، أي لا يحصل إلا به، ويؤمر به أمرًا بالوسائل، ويثاب عليه، لكن العقوبة ليست على تركه‏.‏

/ومن هذا الباب إذا اشتبهت الميتة بالمذكي، فإن المحرم الذي يعاقب على فعله أحدهما، بحيث إذا أكلهما جميعًا لم يعاقب عقوبة من أكل ميتتين، بل عقوبة من أكل ميتة واحدة، والأخرى وجب تركها وجوب الوسائل‏.‏ فقول من قال‏:‏ كلاهما محرم صحيح بهذا الاعتبار؛ وقول من قال‏:‏ المحرم في نفس الأمر أحدهما صحيح أيضًا بذلك الاعتبار وهذا نظير قول من قال‏:‏ يجب التوصل إلى الواجب بما ليس بواجب‏.‏

وإنكار أبي حامد الغزالي وأبي محمد المقدسي على من قال هذا، ومن قال‏:‏ المحرم أحدهما لا يناسب طريقة الفقهاء، وحاصله يرجع إلى نزاع لفظي‏.‏ فإن الوجوب والحرمة الثابتة لأحدهما ليست ثابتة للآخر، بل نوع آخر، حتى لو اشتبهت مملوكته بأجنبية بالليل ووطئها يعتقد حل وطء إحداهما وتحريم وطء الأخرى، كان ولده من مملوكته ثابتًا نسبه بخلاف الأخرى، ولو قدرنا أنها اشتبهت بأجنبية وتزوج إحداهما فحد مثلًا، ثم تزوج الأخرى لم يحد حدين، مع أنه لاحد في ذلك لجواز أن تكون المنكوحة هي الأجنبية‏.‏

وبهذا تنحل شبهة الكعبي‏.‏ فإن المحرم تركه مقصود، وأما الاشتغال بضد من أضداده فهو وسيلة؛ فإذا قيل المباح واجب بمعنى وجوب الوسائل، أي قد يتوسل به إلى فعل واجب وترك محرم فهذا حق‏.‏

/ثم إن هذا يعتبر فيه القصد، فإن كان الإنسان يقصد أن يشتغل بالمباح ليترك المحرم مثل من يشتغل بالنظر إلى امرأته ووطئها ليدع بذلك النظر إلى الأجنبية ووطئها، أو يأكل طعامًا حلالًا ليشتغل به عن الطعام الحرام، فهذا يثاب على هذه النية والفعل؛ كما بين ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بقوله‏:‏ ‏(‏وفي بضع أحدكم صدقة‏)‏‏.‏ قالوا‏:‏ يارسول اللّه، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له أجر‏؟‏‏!‏ قال‏:‏ ‏(‏أرأيتم لو وضعها في حرام أما كان عليه وزر، فلم تحتسبون بالحرام ولا تحتسبون بالحلال‏؟‏‏!‏‏)‏، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن اللّه يحب أن يؤخذ برخصه، كما يكره أن تؤتي معصيته‏)‏ رواه أحمد وابن خزيمة في صحيحه‏.‏

وقد يقال‏:‏ المباح يصير واجبًا بهذا الاعتبار، وإن تعين طريقًا صار واجبًا معينًا، وإلا كان واجبا مخيرًا، لكن مع هذا القصد، أما مع الذهول عن ذلك فلا يكون واجبًا أصلًا، إلا وجوب الوسائل إلى الترك وترك المحرم لا يشترط فيه القصد‏.‏ فكذلك ما يتوسل به إليه، فإذا قيل هو مباح من جهة نفسه وأنه قد يجب وجوب المخيرات من جهة الوسيلة لم يمنع ذلك‏.‏ فالنزاع في هذا الباب نزاع لفظي اعتباري‏.‏ وإلا فالمعاني الصحيحة لا ينازع فيها من فهمها‏.‏

والمقصود هنا أن الأبرار وأصحاب اليمين قد يشتغلون بمباح / عن مباح آخر، فيكون كل من المباحين يستوى وجوده وعدمه في حقهم‏.‏ أما السابقون المقربون فهم إنما يستعملون المباحات إذا كانت طاعة لحسن القصد فيها، والاستعانة على طاعة اللّه، وحينئذ فمباحاتهم طاعات، وإذا كان كذلك لم تكن الأفعال في حقهم إلا ما يترجح وجوده، فيؤمرون به شرعًا أمر استحباب، أو ما يترجح عدمه فالأفضل لهم أن لا يفعلوه، وإن لم يكن فيه إثم‏.‏ والشريعة قد بينت أحكام الأفعال كلها فهذا سؤال‏.‏

وسؤال ثان‏:‏ وهو أنه إذا قدر أن من الأفعال ماليس فيه أمر ولا نهي، كما في حق الأبرار، فهذا الفعل لا يحمد ولا يذم، ولا يحب ولا يبغض، ولا ينظر فيه إلا وجود القدر وعدمه، بل إن فعلوه لم يحمدوا، وإن لم يفعلوه لم يحمدوا، فلا يجعل مما يحمدون عليه أنهم يكونون في هذا الفعل كالميت بين يدي الغاسل، مع كون هذا الفعل صدر باختيارهم وإرادتهم‏.‏ إذ الكلام في ذلك‏.‏

وأما غيرالأفعال الاختيارية، وهو ما فعل بالإنسان كما يحمل الإنسان وهو لا يستطيع الامتناع، فهذا خارج عن التكليف، مع أن العبد مأمور في مثل هذا أن يحبه إن كان حسنة، ويبغضه إن كان سيئة، ويخلو عنهما إن لم يكن حسنة ولا سيئة، فمن جعل الإنسان فيما يستعمله فيه القدر من الأفعال الاختيارية كالميت بين / يدي الغاسل فقد رفع الأمر والنهي عنه في الأفعال الاختيارية وهذا باطل‏.‏

وسؤال ثالث‏:‏ وهو أن حقيقة هذا القول طي بساط الأمر والنهي عن العبد في هذه الأحوال، مع كون أفعاله اختيارية، وهب أنه ليس له هوى، فليس كل مالا هوى فيه يسقط عنه فيه الأمر والنهي، بل عليه أن يحب ما أحبه اللّه ورسوله، ويبغض ما أبغضه اللّه ورسوله‏.‏

قيل‏:‏ هذه الأسولة أسئلة صحيحة‏.‏

 وفصل الخطاب‏:‏ أن السالك قد يخفي عليه الأمر والنهي، بحيث لا يدري هل ذلك الفعل مأمور به شرعًا أو منهي عنه شرعًا؛ فيبقى هواه لئلا يكون له هوى فيه، ثم يسلم فيه للقدر، وهو فعل الرب لعدم معرفته برضا الرب وأمره وحبه في ذلك الفعل‏.‏

وهذا يعرض لكثير من أئمة العباد، وأئمة العلماء، فإنه قد يكون عندهم أفعال وأقوال لا يعرفون حكم اللّه الشرعي فيها، بل قد تعارضت عندهم فيها الأدلة أو خفيت الأدلة بالكلية، فيكونون معذورين لخفاء الشرع عليهم، وحكم الشرع إنما يثبت في حق العبد إذا تمكن من / معرفته، وأما ما لم يبلغه ولم يتمكن من معرفته فلا يطالب به، وإنما عليه أن يتقي اللّه ما استطاع‏.‏ وهذا خطأ في العلم، وليس خطأ في العمل، وهو كالمجتهد المخطئ له أجر على قصده واجتهاده، وخطؤه مرفوع عنه‏.‏

فإن قيل‏:‏ فإذا كان الأمر هكذا‏.‏ فالواجب على العبد أن يتوقف في مثل هذه الحال إذا لم يتبين له أن ذلك الفعل مأمور به أو منهي عنه، وهو لا يريد أن يفعل شيئًا لا مدح فيه ولا ذم، فيقف لا يستسلم للقدر ويصير محلًا لما يستعمل فيه من الأفعال، اللّهم إلا إذا فعل غيره فعلًا، فهو لا يمدحه ولا يذمه، ولا يرضاه ولا يسخطه؛إذا لم يتبين له حكمه‏.‏

فأما كونه هو من أفعاله الاختيارية يصير مستسلمًا لما يستعمله القدر فيه‏:‏ كالطفل مع الظئر، والميت مع الغاسل، فهذا مما لم يأمر اللّه به ولا رسوله، بل هذا محرم، وإن عفى عن صاحبه وحسب صاحبه أن يعفي عنه؛ لاجتهاده وحسن قصده، أما كونه يحمد على ذلك، ويجعل هذا أفضل المقامات فليس الأمر كذلك، وكونه مجردًا عن هواه ليس مسوغًا له أن يستسلم لكل مايفعل به‏.‏

ثم يقال‏:‏ الأمور مع هذا نوعان‏:‏

/أحدهما‏:‏ أن يفعل به بغير اختياره كما يحمل الإنسان ولا يمكنه الامتناع، وكما تضجع المرأة قهرًا وتوطأ، فهذا لا إثم فيه باتفاق العلماء، وأما أن يكره بالإكراه الشرعي حتى يفعل، فهذا أيضًا معفو عنه في الأفعال عند الجمهور، وهو أصح الروايتين عن أحمد لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 33‏]‏‏.‏

وأما إذا لم يكره الإكراه الشرعي فاستسلامه للفعل المطلق الذي لا يعرف أخير هو أم شر‏؟‏ ليس هو مأمورًا به، وإن جرى على يده خرق عادة أو لم يجر، فليس هو مأمورًا أن يفعل إلا ما هو خير عند اللّه ورسوله‏.‏

قيل‏:‏ هذا السؤال صحيح، وحقيقة الأمر‏:‏ أن السالكين إذا وصلوا إلى هذا المقام فيحسن قصدهم وتسليمهم وخضوعهم لربهم، وطلبهم منه أن يختار لهم ما هو الأصلح، إذا استعملوا في أمورهم لا يعرفون حكمه في الشرع رجوا أن يكون خيرًا؛ لأن معرفتهم بحكمه قد تعذرت عليهم، والإنسان غير عالم في كل حال بما هو الأصلح له في دينه، وبما هو أرضى للّه ورسوله، فيبقى حالهم حال المستخير للّه فيما لم يعلم عاقبته، إذا قال‏:‏ ‏(‏اللهم، إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم؛ فإنك تقدر ولا أقدر؛ وتعلم ولا أعلم؛ وأنت علام الغيوب، اللّهم، إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني / ومعاشي وعاقبة أمري فاقدره لي ويسره لي، ثم بارك لي فيه‏.‏ وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري فاصرفه عني واصرفني عنه واقدر لي الخير حيث كان ثم ارضني به‏)‏‏.‏

فإذا استخار اللّه كان ما شرح له صدره وتيسر له من الأمور هو الذي اختاره اللّه له‏.‏ إذ لم يكن معه دليل شرعي على أن عين هذا الفعل هو مأمور به في هذه الحال، فإن الأدلة الشرعية إنما تأمر بأمر مطلق عام، لا بعين كل فعل من كل فاعل، إذ كان هذا ممتنعًا؛ وإن كان ذلك المعين يمكن إدراجه تحت بعض خطاب الشارع العام؛ إذا كانت الأفراد المعينة داخلة تحت الأمر العام الكلي؛ لكن لا يقدر كل أحد على استحضار هذا، ولا على استحضار أنواع الخطاب ‏.‏

ولهذا كان الفقهاء يعدلون إلى القياس عند خفاء ذلك عليهم‏.‏

ثم القياس ـ أيضًا ـ قد لا يحصل في كل واقعة، فقد يخفى على الأئمة المجتهدين من الصحابة والتابعين لهم بإحسان دخول الواقعة المعينة تحت خطاب عام، أو اعتبارها بنظير لها، فلا يعرف لها أصل، ولا نظير‏.‏ هذا مع كثرة نظرهم في خطاب الشارع ومعرفة معانيه، ودلالته على الأحكام‏.‏ فكيف من لم يكن كذلك‏؟‏‏!‏

/ثم السالك ليس قصده معرفة الحلال والحرام؛ بل مقصوده أن هذا الفعل المعين خير من هذا، وهذا خير من هذا، وأيهما أحب إلى اللّه في حقه في تلك الحال، وهذا باب واسع لا يحيط به إلا اللّه ولكل سالك حال تخصه قد يؤمر فيها بما ينهي عنه غيره، ويؤمر في حال بما ينهي عنه في أخرى‏.‏

فقالوا‏:‏ نحن نفعل الخير بحسب الإمكان، وهو فعل ما علمنا أنا أمرنا به، ونترك أصل الشر وهو هوى النفس، ونلجأ إلى اللّه فيما سوى ذلك أن يوفقنا لما هو أحب إليه وأرضى له؛ فما استعملنا فيه رجونا أن يكون من هذا الباب؛ ثم إن أصبنا فلنا أجران، وإلا فلنا أجر، وخطؤنا محطوط عنا فهذا هذا‏.‏

وحينئذ، فمن قدر أنه علم المشروع وفعله فهو أفضل من هذا؛ ولكن كثير ممن يعلم المشروع لا يفعله ولا يقصد أحب الأمور إلى اللّه وكثير منهم يفعله بشوب من الهوى، فيبقى هذا فعل المشروع بهوى وهذا ترك مالم يعلم أنه مشروع بلا هوى‏.‏ فهذا نقص في العلم، وذاك نقص في العمل؛ إذ العمل بهوى النفس نقص في العمل، ولو كان المفعول واجبًا‏.‏

فيقال‏:‏ إن تاب صاحب الهوي من هواه كان أرفع بعلمه، وإن / لم يتب فله نصيب من عالم السوء؛ ولهذا تشاجر رجلان من المتقدمين عام الحكمين في مثل هذا‏.‏ فقال أحدهما لصاحبه‏:‏ إنما مثلك مثل الكلب؛ إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث‏.‏ وقال الآخر‏:‏ أنت كالحمار يحمل أسفارًا؛ فهذا أحسن قصدًا وأقوى علمًا‏.‏

ولهذا تجد أصحاب حسن القصد إنما يعيبون على هؤلاء اتباع الهوي وحب الدنيا والرئاسة، وأهل العلم يعيبون على أولئك نقص علمهم بالشرع، وعدولهم عن الأمر والنهي فهذا هذا‏.‏

واللّه ـ تعالى ـ المسؤول أن يهدينا إلى الصراط المستقيم صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا‏.‏

وقد قال بعض أهل الفقه والزهد‏:‏ من الناس من سلك الشريعة، ومنهم من سلك الحقيقة‏.‏ ولعله أراد هؤلاء وهؤلاء؛ فإن هؤلاء يرجحون بما ييسره اللّه مع حسن القصد واتباع الأمر والنهي المعلوم لهم مع خفاء الأدلة الشرعية في ذلك المتيسر لهم، وهؤلاء يرجحون بالأدلة الشرعية من الظواهر والأقيسة، وأخبار الآحاد وأقوال العلماء مع خفاء الأمر المتيسر لهم‏.‏

وأيضًا، فهؤلاء قد يشهدون مافي ذلك الفعل المقدر من / المصلحة والخير، فيرجحونه بحكم الإيمان وإن لم يعرفوا دليلًا من النص على حسنه، وأولئك إنما يرجحون من النصوص، وما استنبط منها، فهؤلاء لهم القرآن، وهؤلاء لهم الإيمان، وسبب هذا أن كلا من الطائفتين خفي عليه ما مع الأخرى من الحق، وكل من الطائفتين في طريقها حق وباطل‏.‏

فأما المدعون للحقيقة بدون مراعاة الأمر والنهي الشرعيين، فهم ضالون، كالذين يعرفون الأمر والنهي ولا يفعلون إلا ما يهوونه من الكبائر، فإنهم فساق‏.‏ وهؤلاء الذين قيل فيهم‏:‏ احذروا فتنة العالم الفاجر، والعابد الجاهل فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون‏.‏ والحقيقة قد تكون قدرية وقد تكون ذوقية، وقد تكون شرعية ولفظ الشرع يتناول المنزل، و المؤول والمبدل‏.‏

والمقصود هنا ذكر أهل الاستقامة من الطائفتين والكلام على حال أهل العبادة والإرادة، الذين خرجوا عن الهوي وهو الفرق الطبعي، وقاموا بما علموه من الفرق الشرعي‏.‏

وبقى قسم ثالث، ليس لهم فيه فرق طبعي ولا عندهم فيه فرق شرعي، فهو الذي جروا فيه مع الفعل والقدر‏.‏

وأما من جري مع الفرق الطبعي، إما عالمًا بأنه عاص وهو العالم / الفاجر، أو محتجًا بالقدر أو بذوقه ووجده معرضًا عن الكتاب والسنة، وهو العابد الجاهل فهذا خارج عن الصراط المستقيم‏.‏

وهذا مما بين حال كمال الصحابة ـ رضي اللّه عنهم ـ وأنهم خير قرون هذه الأمة، إذ كانوا في خلافة النبوة يقومون بالفروق الشرعية في جليل الأمور ودقيقها مع اتساع الأمر، والواحد من المتأخرين قد يعجز عن معرفة الفروق الشرعية فيما يخصه، كما أن الواحد من هؤلاء يتبع هواه في أمر قليل‏.‏ فأولئك مع عظيم ما دخلوا فيه من الأمر والنهي لهم العلم الذي يميزون به بين الحسنات والسيئات، ولهم القصد الحسن الذي يفعلون به الحسنات، والكثير من المتأخرين العالمين والعابدين يفوت أحدهم العلم في كثير من الحسنات والسيئات حتى يظن السيئة حسنة وبالعكس، أو يفوته القصد في كثير من الأعمال، حتي يتبع هواه فيما وضح له من الأمر والنهي‏.‏

فنسأل اللّه أن يهدينا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين‏.‏

هذا لعمري إذا كان عند العالم ما هو أمر الشارع ونهيه حقيقة، وعند العابد حسن القصد الخالي عن الهوي حقيقة، فأما من خلط الشرع المنزل بالمبدل والمؤول، وخلط القصد الحسن باتباع الهوى، فهؤلاء / وهؤلاء مخلطون في علمهم وعملهم، وتخليط هؤلاء في العلم سوى تخليطهم وتخليط غيرهم في القصد، وتخليط هؤلاء في القصد سوى تخليطهم وتخليط غيرهم في العلم‏.‏

فإنه من عمل بما علم ورثه اللّه علم ما لم يعلم‏.‏ وحسن القصد‏:‏ من أعون الأشياء على نيل العلم ودركه‏.‏ والعلم الشرعي‏:‏ من أعون الأشياء على حسن القصد والعمل الصالح، فإن العلم قائد والعمل سائق والنفس حرون، فإن ونى قائدها لم تستقم لسائقها، وإن ونى سائقها لم تستقم لقائدها، فإذا ضعف العلم حار السالك ولم يدر أين يسلك، فغايته أن يستطرح للقدر، وإذا ترك العمل حار السالك عن الطريق فسلك غيره مع علمه أنه تركه، فهذا حائر لا يدري أين يسلك مع كثرة سيره وهذا حائر عن الطريق زائغ عنه مع علمه به‏.‏

قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ‏}‏ ‏[‏الصف‏:‏ 5‏]‏‏.‏ هذا جاهل وهذا ظالم، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 72‏]‏‏.‏ مع أن الجهل والظلم متقاربان لكن الجاهل لا يدري أنه ظالم والظالم جهل الحقيقة المانعة له من العلم‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 17‏]‏‏.‏

قال أبو العالية‏:‏ سألت أصحاب محمد فقالوا‏:‏ كل من عصى اللّه / فهو جاهل وكل من تاب قبل الموت فقد تاب من قريب‏.‏

وقد روى الخلال عن أبي حيان التيمي قال‏:‏ العلماء ثلاثة‏:‏ فعالم باللّه ليس عالمًا بأمر اللّه، وعالم بأمر اللّه ليس عالمًا باللّه، وعالم باللّه وبأمر اللّه‏.‏

فالعالم باللّه الذي يخشاه، والعالم بأمر اللّه الذي يعرف أمره ونهيه‏.‏

قلت‏:‏ والخشية تمنع اتباع الهوى قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى ‏.‏ فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 40، 41‏]‏‏.‏

والكمال في عدم الهوى وفي العلم هو لخاتم الرسل صلى الله عليه وسلم الذي قال فيه‏:‏ ‏{‏وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى ‏.‏ مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى ‏.‏ وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى ‏.‏ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 1-4‏]‏، فنفى عنه الضلال والغي ووصفه بأنه لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، فنفى الهوى وأثبت العلم الكامل وهو الوحي، فهذا كمال العلم وذاك كمال القصد صلى الله عليه وسلم‏.‏

ووصف أعداءه بضد هذين، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمْ الْهُدَى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 23‏]‏، فالكمال المطلق للإنسان هو تكميل العبودية للّه علمًا وقصدًا‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 56‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ‏}‏ ‏[‏الجن‏:‏ 19‏]‏، وقال تعالى فيما حكاه عن إبليس‏:‏ ‏{‏قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ‏.‏ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 82، 83‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 42‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 24‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ‏.‏ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 99، 100‏]‏‏.‏

وعبادته‏:‏ طاعة أمره، وأمره لنا ما بلغه الرسول عنه، فالكمال في كمال طاعة اللّه ورسوله باطنًا وظاهرًا، ومن كان لم يعرف ما أمر اللّه به فترك هواه واستسلم للقدر أو اجتهد في الطاعة فأخطأ فعل المأمور به إلى ما اعتقده مأمورًا به، أو تعارضت عنده الأدلة فتوقف عما هو طاعة في نفس الأمر، فهؤلاء مطيعون للّه مثابون على ما أحسنوه من القصد للّه، واستفرغوه من وسعهم في طاعة اللّه، وما عجزوا عن علمه فأخطؤوه إلى غيره فمغفور لهم‏.‏

وهذا من أسباب فتن تقع بين الأمة، فإن أقوامًا يقولون ويفعلون أمورًا هم مجتهدون فيها‏.‏ وقد أخطؤوا فتبلغ أقوامًا يظنون أنهم تعمدوا فيها الذنب، أو يظنون أنهم لا يعذرون بالخطأ، وهم أيضًا مجتهدون مخطئون، فيكون هذا مجتهدًا مخطئًا في فعله، وهذا مجتهدًا مخطئًا / في إنكاره، والكل مغفور لهم‏.‏ وقد يكون أحدهما مذنبًا، كما قد يكونان جميعًا مذنبين‏.‏

وخير الكلام كلام اللّه، وخير الهدى هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة‏.‏

والواحد من هؤلاء قد يعطي طرفًا بالأمر والنهي، فيولي ويعزل ويعطي ويمنع، فيظن الظان أن هذا كمال، وإنما يكون كمالا إذا كان موافقًا للأمر، فيكون طاعة للّه، وإلا فهو من جنس الملك، وأفعال الملك‏:‏ إما ذنب، وإما عفو، وإما طاعة‏.‏

فالخلفاء الراشدون أفعالهم طاعة وعبادة، وهم أتباع العبد الرسول وهي طريقة السابقين المقربين‏.‏

وأما طريقة الملوك العادلين، فإما طاعة وإما عفو، وهي طريقة الأنبياء الملوك؛ وطريقة الأبرار أصحاب اليمين‏.‏

وأما طريقة الملوك الظالمين، فتتضمن المعاصي، وهي طريقة الظالمين لأنفسهم‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 32‏]‏ فلا يخرج الواحد من المؤمنين عن أن يكون / من أحد هذه الأصناف‏:‏ إما ظالم لنفسه وإما مقتصد، وإما سابق بالخيرات‏.‏

وخوارق العادات‏:‏ إما مكاشفة وهي من جنس العلم الخارق، وإما تصرف وهي من جنس القدرة الخارقة، وأصحابها لا يخرجون عن الأقسام الثلاثة‏.‏